الاثنين، 21 يناير 2013

إخلاص المسلم على طريق الله

هناك أمور تعين المسلم السالك طريق الله على إخلاص النية والعمل لله تعالى. إنها بواعث نفسية، ودوافع روحية، وعوامل فكرية، وجوانب عملية، إذا توافرت وتوطدت فهي جديرة أن تؤثر في عقل السالك وضميره، وتدفعه إلى الأمام في طريق المخلصين، وتساعده على تحرير نفسه، وتنقية دواعيه من الشوائب الذاتية والدنيوية.
العلم الراسخ:
1- أول هذه المعينات أو البواعث: أن يعلم علما يستيقنه في أعماقه بأهمية الإخلاص وضرورته الدينية، وثمراته في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى لا يقبل عملا إلا بإخلاص، مهما تكن صورته، وأنه تعالى مطلع على ما في قلبه، فهو يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية. كما قال إبراهيم عليه السلام: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء).(إبراهيم:38)
ولا يتم ذلك إلا بأن يقرأ ويكرر ما جاء في القرآن والسنة من ذلك، وما جاء في كلام الصالحين، ويستيقن من خطر الرياء، وحب الجاه والشهرة، وحب الدنيا... وتأكد هذه المعارف في النفس ورسوخها يعينها على أن تتخلص من أهوائها الذاتية، ومن شهواتها الدنيوية.
فإن مقام "الإخلاص" كغيره من المقامات أو الأخلاق الربانية مركب مكون من ثلاثة عناصر:
1- عنصر معرفي إدراكي.
2- وعنصر وجداني انفعالي.
3- وعنصر عملي إرادي.
وهو ما يعبر عنه الإمام الغزالي في "الإحياء" عادة بأنه معجون مركب من: علم ، وحال، وعمل.
ولا ريب أن أول هذه العناصر هو العلم والمعرفة. فالعلم هو الذي يسبق في الوجود، ولا يمكن أن يتوجه الإنسان إلى شيء لا يدركه ولا يعلمه بوجه من الوجوه، إنما يأتي التوجه الوجداني – المحبة والرغبة، أو البغض والرهبة – نتيجة للمعرفة والإدراك. وكلما قويت المعرفة، ورسخ العلم، حتى وصل إلى درجة اليقين، كان تأثيره في الوجدان أقوى وأعمق، فالمرء يعرف أولا، فيتأثر ثانيا، فيتحرك ثالثا. وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).(الحج:54). كان العطف هنا بحرف "الفاء" للدلالة على الترتيب والتعقيب. فهؤلاء الذين أوتوا العلم، يعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، فيترتب على هذا العلم الإيمان به، ويترتب على هذا الإيمان: حركة قلوبهم بالإخبات والخشوع لله تعالى.
صحبة أهل الإخلاص:
2- ومما يعين على الإخلاص: صحبة أهل الإخلاص ومعايشتهم، والحياة في رحابهم، ليتأسى بهم، ويأخذ عنهم، ويتخلق بأخلاقهم، فإن التأسي بهم صلاح، والتشبه بهم فلاح.
وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم أثر الصحبة والمجالسة في الصاحب والمجالس تصويرا بليغا معبرا، فقال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يعطيك) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".
ومن رحمة الله بالناس: أن الأرض لا تخلو من هؤلاء، فليجتهد سالك طريق الآخرة في البحث عنهم، والاقتباس منهم، فهم كما جاء في الصحيح: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
لقد نوه الحكماء والشعراء والأدباء بالصحبة والأصحاب. وقال في ذلك الشاعر:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
لاريب أن من أعظم البواعث على الإخلاص: صحبة المخلصين، الذين نذروا حياتهم لله، وباعوا أنفسهم وأموالهم لله، هؤلاء الذين جالسوك في الله ، ويحبونك في الله، وتحبهم في الله... ليسوا من الذين يقبلون عليك، ويلتفون بك، إذا أقبلت عليك الدنيا، ويعرضون عنك إذا أدبرت عنك الدنيا، فهم ذباب طمع، وفراش نار.
هؤلاء الذين أمر الله رسوله الكريم أن يصبر نفسه معهم، ولا تعدو عيناه عنهم، وذلك في قوله سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)(الكهف:28).
إن الذي يصحب هؤلاء يتأثر بهم، ويأخذ عنهم، ويقتبس منهم فضائلهم، بالأسوة الحسنة، وبالحال المؤثرة، ولهذا قال السلف: "حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقال ألف رجل في رجل". يعنون بحاله: سلوكه وخلقه وعمله.
وقد جاء عن سلمان رضي الله عنه: "مثل الأخوين المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا".
المهم ألا تعيش وحدك، ولا تخلد إلى صومعة العزلة، وحياة الرهبنة، فلا رهبانية في الإسلام، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، والخير والرحمة مع الجماعة، والهلاك والضياع مع الانفراد والشذوذ عن الجماعة. ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فهي مع القطيع محمية به، محروسة ببركة التجمع، وهي إذا شردت عنه التهمها الذئب منفردة، والشيطان هو ذئب الإنسان. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والجماعة قوة على الطاعة، وعون على الحماية من المعصية.
فتعرف على إخوانك في الله، وضع يدك في أيديهم، وتعلم منهم وعلمهم، وتعاون معهم على البر والتقوى، وتواص معهم بالحق وبالصبر، تعرف عليهم في المساجد، وفي مجالس الخير، وفي حلقات العلم، وفي ميادين الدعوة، ولا تخلو الأرض – إن شاء الله – منهم . قال تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). وقال تعالى: (والعصر* إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فأوص غيرك بالحق، وتقبل الوصية من غيرك به، وليس هناك مؤمن أصغر من أن يوصي، ولا أكبر من أن يوصى . وهذا معنى التواصي، الذي يقتضي التفاعل من الجانبين، وقد قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة:71). وفي الحديث: "المؤمن مرآة المؤمن".
قراءة سير المخلصين
3- ومما يعين على الإخلاص، ويبعث عليه: قراءة سير المخلصين، والتعرف على حياتهم، للتأثر بهم، والاهتداء بهداهم، فإذا لم يستطع السالك إلى الله أن يجد المخلصين الأحياء ليصاحبهم، فلا أقل من أن يصحب المخلصين الأموات، فإن الأخلاق كالأفكار لا تموت بموت أصحابها.
فهذه القراءة لون من الصحبة والمعايشة، ولكنها صحبة فكرية ونفسية، ومعايشة روحية وإيمانية.
ومن فضل الله تبارك وتعالى: أن في تراثنا كثيرا من "النماذج المخلصة" التي لا يملك من قرأها إلا أن يتأثر بها.
من هذه النماذج نموذج الثلاثة "أصحاب الغار" الذي قص علينا قصتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين أطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجهم منها إلا أعمال صالحة كانوا قدموها خالصة لوجه الله تعالى، فتوسلوا إلى الله بها، وقال كل واحد منهم: "اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه". ففرج الله عنهم، وأخرجهم من ورطتهم بسبب إخلاصهم. وقد مر بنا هذا النموذج مفصلا فليرجع إليه.
ومن هذه النماذج ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي في سننه عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه.
فلما كانت غزاته غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال: ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك - النبي صلى الله عليه وسلم-، فأخذه ، فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا ؟ قال: "قسمته لك".
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا – وأشار إلى حلقه – بسهم، فأموت، فأدخل الجنة؛ فقال: "إن تصدق الله يصدقك".
فلبثوا قليلا: ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل، قد أصابه سهم، حيث أشار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : "أهو هو"؟ قالوا : نعم، قال: "صدق الله فصدقه".
ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدمه فصلى عليه، وكان بما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك".
ومن ذلك: ما حفل به التاريخ الإسلامي من روائع البطولات، ووقائع المخلصين الذين نذروا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله، وجهادهم كله لله، فلم يشركوا به أحدا.
من هؤلاء: ما كتبه الإمام حسن البنا رضي الله عنه في أحد أحاديث الجمعة في جريدة "الإخوان المسلمون" اليومية عن "صاحب النقب"؛ وتتلخص قصته في أن المسلمين في إحدى معاركهم وقفوا أمام حصن منيع من حصون عدوهم، وطال حصارهم لهذا الحصن، ثم فكر أحد الجنود في فتح ثغرة أو نقب في جدال الحصن، يتسلل منه، ويفتح الباب للمقاتلين المسلمين.
فعل ذلك الجندي المسلم، ونقب النقب وحده في هدوء وصمت، مما مكن المسلمين من تحقيق النصر المنشود بأقل التضحيات.
المهم أن قائد المعركة بحث عن "صاحب النقب" الذي كان وراء هذا النصر، ولم يتقدم أحد يقول: أنا هو. فخطب في جنوده قائلا: أقسمت بالله على من نقب النقب أو عرف صاحبه إلا دلني عليه.
وبينما القائد في خيمته دخل عليه رجل، وقال له: هل تريد أن تعرف صاحب النقب؟ قال: نعم والله.
قال: أنا أدلك عليه، ولكن له شروطا يطلبها. قال : له كل ما يشترط، فما شروطه رحمك الله؟ . قال : ألا تسأله عن اسمه، ولا تعلن عنه في الناس أو إلى الخليفة، ولا تكافئه على عمله. قال: له ذلك، فأين هو؟ قال: أنا هو فقام القائد وعانقه. فطالبه بالوفاء بالشرط، فلم يملك القائد إلا الاستجابة، وذاب هذا الجندي المجهول في المحيط الكبير، فلم يره أحد بعد ذلك.
فكان القائد يدعو الله أن يحشره مع صاحب النقب، وأن ينصر دينه به وبأمثاله من أهل الإيمان والإخلاص: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)(الأنفال:62).
المجاهدة للنفس:
3- ومن المعينات على الإخلاص: المجاهدة. ونعني بالمجاهدة توجيه الإرادة إلى جهاد النفس الأمارة بالسوء، ومقاومة رغباتها الذاتية والدنيوية، حتى تخلص لله تعالى.
ولا يستطيع أحد أن يسلك طريق القوم، وهو مستسلم لأهواء نفسه، وحبها للجاه والظهور، وطموحها إلى الشهرة والثناء، أو للثروة والمال، أو لغير ذلك من شهوات النفس، وزخارف الدنيا. وإنما يسلك الطريق من اصطحب معه إرادة قوية، وتصميماً على المجاهدة، و"الإرادة" هي الأساس، و"المجاهدة" هي المحور.
وإن أخطر شيء على سالك الطريق هو اليأس من الانتصار في هذه المعركة، وإلقاء السلاح اعترافا بالهزيمة النفسية، أو إقرارا بالعجز أو باستحال الوصول.
وقد كان بعض الحكماء يكره من أصحابه وتلاميذه كلمات ثلاثاً؛ هي: لا أقدر ، لا أعرف، مستحيل.
فأما من قال له : لا أقدر، فيقول له : حاول.
وأما من قال له : لا أعرف، فيقول له : تعلم.
وأما من قال له : مستحيل، فيقول له: جرب.
ولا شك أن في مجاهدة النفس صعوبة ومعاناة ومشقة، يجدها من يريد طريق الآخرة، وخصوصاً في أول الأمر، ولكن بالاجتهاد والمحاولة والتكرار والصبر، والاستعانة بالله تعالى، يسهل الصعب، ويتيسر العسير.
وهذه سنة الله في خلقه: أن من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، وهذا وعد الله سبحانه لمن جاهد فيه: أن يهديه سبيله وينير له طريقه، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)(العنكبوت:69).
وهذه الآية مكية، أي أنها نزلت قبل أن يشرع الجهاد بالمعنى العسكري، فهي أحق بأن تكون في ألوان الجهاد الأخرى، وفي مقدمها: جهاد النفس، وهو أول مراتب الجهاد وأولاها.
وفي الحديث الشريف: "المجاهد من جاهد نفسه لله"، أو قال: "في الله عز وجل".
الدعاء والاستعانة بالله
5- وما يقوي ذلك كله ويشد عضد سالك الطريق إلى الله: أن يستعين بالله تبارك وتعالى على أمره كله، فمنه وحده العون، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله. وقد علمنا الله تعالى أن نقول في صلواتنا أبداً: (إياك نعبد وإياك نستعين)(الفاتحة:5). فهذه هي حقيقة التوحيد: إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، فلا عبادة إلا له، ولا استعانة إلا به تبارك وتعالى، وفي الصحيح: "استعن بالله ولا تعجز".
والدعاء سلاح المؤمن، وسبب من الأسباب الروحية التي شرعها الله للإنسان ليحقق مطالبه، ويسد حاجاته.
وعندما تعجز وسائل الإنسان المادية، أو تضعف قدرته، أو تهن إرادة، فليس أمامه إلا باب الله الكريم، يطرقه بالدعاء، ويسأله من فضله، وهو أهل الإجابة، وقد مر بنا الحديث الذي علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه".
ـــــــــــ
نقلاً عن كتاب " فى الطريق إلي الله .. النية والإخلاص" للشيخ القرضاوي ص113 – ص 120.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق